بسم الله الرحمن الرحیم

الوضع

القواعد الفقهیة و الاصولیة
علامات الوضع-التبادر-ایجاد شده توسط: حسن خ







نظریه قرن اکید

بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 49
التحقيق في حقيقة الوضع‏
البحث في حقيقة الوضع، هو بحث في كيفية نشوء الدلالة بين اللفظ و المعنى، و أنه كيف يصبح اللفظ سببا لتصور المعنى، بعد أن لم يكن بحد ذاته سببا لذلك؛ ما ذا يصنع الواضع لكي يجعل اللفظ سببا للانتقال إلى المعنى، مع أن اللفظ بطبعه و ذاته، ليس سببا للانتقال إلى المعنى.
و تحقيق ذلك أن يقال:
إنه في باب الانتقال من إدراك شي‏ء إلى تصور شي‏ء يوجد ثلاث قوانين تكوينية ثابتة مخلوقة من قبل خالق العالم الذي وضع القوانين التكوينية لهذا العالم، و هذه القوانين التكوينية الثلاثة نصطلح عليها: بالقانون الأولي التكويني، و القانون الثانوي التكويني الأول، و القانون الثانوي التكويني الثاني. القانون الأولي التكويني: هذا القانون التكويني الأولي، هو أن الإدراك و الإحساس بشي‏ء، يوجب الانتقال التصوري إلى معناه، مثلا الإحساس ب (الأسد) يوجب الانتقال إلى تصور معنى الحيوان المفترس، فهذه سببية واقعية تكوينية مبنية على قانون تكويني خلقه الله تعالى، حين خلق الإنسان و أعطاه إحساسه و خياله و تصوره، جعل هذه السببية تكوينا، بحيث أن الإحساس بشي‏ء يوجب الانتقال إلى تصور معنى ذاك الشي‏ء؛ فالإحساس‏

بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 50
بشي‏ء سبب، و تصور معناه مسبب. هذا هو القانون الأولي التكويني.
القانون الثانوي التكويني الأول: هو إن الإنسان لو لم يحس بالشي‏ء، و لكن أحس بما يشابه ذلك الشي‏ء، فأيضا ينتقل منه إلى تصور ذلك المعنى و إن كان لم يحس به، و لكن أحس بمشابهه، فهذا القانون يقتضي أيضا الانتقال إلى المعنى؛ مثلا: نحن نرسم صورة (الأسد) على الورق، فإذا رأى إنسان هذه الصورة، يتصور في ذهنه الحيوان المفترس، مع أنه لم ير الحيوان المفترس نفسه، و لكن رأى المشابه له من بعض الجهات، لكن حينئذ إدراك المشابه يعوض عن إدراك نفسه، فيكون سببا أيضا للانتقال إلى معنى الحيوان المفترس و هذا القانون ليس مربوطا بالواضع، و لا بجعل الواضع بوجه من الوجوه، و هو حاكم على القانون التكويني الأولي، لأن القانون التكويني الأولي مفاده. من أحس بالحيوان المفترس ينتقل ذهنه إلى تصور معناه، و هذا القانون الثانوي الأول يجعل الإحساس بالمشابه بمنزلة الإحساس به، فله حكومة عليه، و لكنها حكومة تكوينية، لا حكومة تنزيلية ادعائية اعتبارية، بل هي حكومة واقعية، بمعنى أن يجعل المشابه، له الأثر نفسه الموجود بالمشابه، فمتى ما رأينا صورة (الأسد) على الورق. انتقلنا إلى صورة الحيوان المفترس، هذا هو القانون الثانوي التكويني الأول.
القانون الثانوي التكويني الثاني: و هذا القانون الذي له أيضا حكومة على القانون التكويني الأولي، مفاده أنه لو لم نر الحيوان المفترس، و لم نر أيضا شيئا مشابها له على الورق، لكن أدركنا شيئا كان يقترن مع الحيوان المفترس بوجه مخصوص، اقترانا مخصوصا شديدا، حينئذ ننتقل منه إلى تصور الحيوان المفترس، فإذا فرضنا أن شيئا كان يقترن مع شي‏ء آخر، اقترانا مخصوصا، و حينئذ إذا أدركنا أحدهما و رأيناه، ينتقل ذهننا أيضا إلى الآخر، فكأن المقترن أيضا يصير له هذه الحالة، و هي أنه يوجب الانتقال الذهني و التصوري إلى شكل الشي‏ء الآخر الذي كان مقترنا معه بوجه مخصوص.
و هذا الاقتران المخصوص تارة تكون الخصوصية فيه خصوصية كمية،

بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 51
بحيث تنشأ هذه الخصوصية بسبب كثرة الاقتران، كما لو فرضنا أن أحد الشيئين اقترن بالآخر مئات المرات، مرارا و تكرارا، فحينئذ إذا رأينا أحدهما، انتقل ذهننا تصورا إلى الآخر، فمثلا: في علم الرجال دائما نرى (النوفلي) يروي عن (السكوني)، ف (النوفلي) و (السكوني) مقترنان في تصورنا متى ما رأينا (نوفلي) رأينا (سكوني)؛ فلو رأينا على ورق في مرة من المرات كلمة (سكوني) ينتقل ذهننا فورا إلى (النوفلي)، لأن (السكوني) رأيناه مرارا و تكرارا مع (النوفلي)، فأصبح للسكوني هذه الحالة، و هي أنه متى ما رأيناه انتقل ذهننا تصورا إلى (النوفلي).
و تارة أخرى تكون تلك الخصوصية خصوصية كيفية، بحيث لم تنشأ من كثرة الاقتران مرارا و تكرارا، بل قد يتفق أن يقترن أحد الشيئين بالآخر مرة واحدة، لكن باقتران مخصوص بكيفية مخصوصة، بحيث بعد هذا إذا أدركنا أحدهما ينتقل ذهننا إلى الآخر؛ فمثلا إذا سافر الإنسان إلى بلد «بغداد» و ابتلي بمرض شديد، و بعد هذا رجع، قد يتفق أنه متى ما تصور اسم ذلك البلد، انتقل ذهنه إلى ذلك المرض الذي أصابه، و إن كان البلد مع المرض قد اقترنا مرة واحدة، لكن حيث أنه اقتران من نوع شديد، و بكيفية أكيدة، و لهذا متى ما تصور أحدهما «بغداد» انتقل ذهنه إلى أنه ذهب إلى البلد، و مرض مرضا شديدا.
تطبيقات:
صار واضحا أنه يوجد قانون تكويني أولي، و قانونان تكوينيان حاكمان على القانون التكويني الأولي، و بعد هذا نقول:
إن الدلالات التي تواضع عليها الناس فيما بينهم، بعضها بحسب الحقيقة صغريات و تطبيقات لكبرى القانون الثانوي التكويني الأول، و بعضها أيضا صغريات و تطبيقات لكبرى القانون الثانوي التكويني الثاني، و قد يتفق أن يكون بعض هذه الدلالات التي تواضع عليها الناس صغريات و تطبيقات لكبرى القانونين الثانويين التكوينيين معا.

بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 52
فهناك من الدلالات التي تواضع عليها الناس، الإشارات التصويرية، بحيث أصبحت لغة عالمية مللية بين مختلف الملل و النحل، مثالها الإنسان حينما يريد أن يبين للآخر أن هذا تاجر مثلا، فيحرك بيده بنحو، يجعل بالإشارة صورة يده مشابهة مع ذلك الشخص الذي يريد أن يفهمه إياه؛ فمثل هذه نسميها بالإشارات التصويرية التي تواضع عليها الناس منذ القدم، و إلى يومنا هذا، و هي بحسب الحقيقة صغرى، و تطبيق للقانون الثانوي التكويني الأول.
و هنا أيضا نقول: إنا نخلق باليد و حركتها، حالة مشابهة لطلبة يلبس العمامة، حينئذ هذا الخلق لهذه الصورة يوجب انتقال ذهنه تصورا إلى الطلبة، من قبيل، أنه لو رأى صورة (الأسد) على الورق، ينتقل ذهنه إلى الحيوان المفترس. فهذه الدلالات الإشارية و الإشارات التصويرية، تكون تطبيقا للقانون الثانوي التكويني الأول.
و هناك ما يكون تطبيقا للقانون الثانوي التكويني الثاني.
فالإنسان منذ البداية كان يلاحظ أن أصواتا معينة تقترن مع حيوانات معينة، فالنهيق، و الزئير، هذه أصوات معينة لحيوانات معينة، فكلما رأينا (الأسد)، سمعنا معه زئيره و كلما رأى (الحمار) سمع معه نهيقه، و هكذا اقترن اقترانا متكررا، و حينئذ إذا سمعنا الزئير و لم نر (الأسد) بعينه، فسماع الزئير نفسه متكررا، يوجب انتقال الذهن إلى صورة (الأسد) إلى معنى الحيوان المفترس.
و هذا بحسب الحقيقة تطبيق و صغرى للقانون الثانوي التكويني الثاني، لأن الزئير اقترن مرارا عديدة مع شكل (الأسد)، و حينئذ بعد هذا، إذا سمعنا الزئير نتصور في ذهننا صورة الحيوان المفترس.
و هناك ما يكون تطبيقا لكلا القانونين معا، فمثلا.

بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 53
قد يتفق لنا أن لا نسمع الزئير بل نسمع صوتا شبيها بالزئير، بأن كان إنسان يقلد (الأسد)، حينئذ ينتقل الذهن فورا إلى صورة (الأسد)، و هذا تطبيق لكلا القانونين معا؛ لأن الذهن انتقل من شبيه الزئير إلى الزئير، و هذا تطبيق للقانون الثانوي التكويني الأول، و انتقل الذهن من الزئير إلى (الأسد)، و هذا تطبيق للقانون الثانوي التكويني الثاني، لأن الزئير مقترن (بالأسد) مرارا عديدة.
و أيضا لو أن إنسانا لا يعرف اللغة، و أراد أن يفهم إنسانا آخرا، أن هناك أسد، فيصدر صوتا شبيها بالزئير، و ذاك يلتفت فورا إلى أن هناك (أسد)؛ فهنا بحسب الحقيقة، دلالة هذا الصوت الشبيه تتم ببركة ضم أحد هذين القانونين الثانويين إلى الآخر. و كذلك يضم هذان القانونان، لو أردنا أن نعبر بهذا الصوت عن رجل شجاع، و هذه الدلالة، و هي دلالة الصوت الشبيه بصوت (الأسد)، على الرجل الشجاع، تكون بتطبيقات عديدة لهذين القانونين، لأن الصوت الخارج من الإنسان يدل على الزئير من باب دلالة الشبيه على الشبيه الآخر، و الزئير يدل على (الأسد)، و (الأسد) يدل على الرجل الشجاع؛ فبتطبيقات عديدة لهذين القانونين أصبح هذا الصوت يدل على الرجل الشجاع.
و إلى هنا نرى أن الإنسان بلا عناية من قبله، و في حدود هذين القانونين الثانويين التكوينيين المخلوقين من قبل الله تعالى، أمكن أن يوجد لنفسه لغة، لأنه بأصوات متعددة يمكن أن يفهم أشياء متعددة، فهو يفهم إما أصحاب الأصوات أنفسهم، و هذا تطبيق للقانون الثاني، أو يفهم ما يشبه أصحاب الأصوات، و هذا ضم لأحد القانونين إلى الآخر.
و هكذا و بلا إعمال عناية من قبل الإنسان، حصلت لغة، و هذه اللغة و هذه الدلالة- دلالة اللفظ على المعنى- لا يتدخل فيها أي عناية من قبل الإنسان، لا في الكبرى و لا في الصغرى؛ لا في كبرى القانون، لأنها تكوينية مجعولة من قبل خالق الإنسان، و خالق العالم، و لا في صغرى القانون- الزئير

بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 54
قد اقترن مرارا عديدة- لأنها أمر طبيعي صدفتي، فصدفة اقترن الزئير مع (الأسد) لا بفعل أي إنسان في العالم، و بدون أي تصرف من أحد.
الوضع التعييني و التعيني:
إذن صار واضحا أن بعض الدلالات التي تواضع عليها الناس، ما يكون تطبيقا للقانونين الثانويين الأول و الثاني، كما في مقام تفهيم الرجل الشجاع، حيث أن الإنسان يستعمل صوتا شبيها بصوت الأسد لتفهيم شخص آخر بأن زيدا من الناس شجاع. فلو فرضنا أن هذا المستعمل للصوت الشبيه بالزئير، كرر هذه العملية، مرارا و تكرارا، بحيث اقترن هذا الصوت مع هذا المعنى في الذهن، مرارا عديدة، حينئذ يصبح هذا بنفسه تطبيقا للقانون الأول، بلا حاجة إلى ضم مسألة المشابهة، و حينئذ يصبح هذا الصوت بنفسه يدل ابتداء على الرجل الشجاع، بلا حاجة إلى توسط أن هذا شبيه بالأسد، و إلى أن هذا صوت شبيه بصوت الأسد، بل بتكرره يصبح هذا الصوت بنفسه دالا على الرجل الشجاع، و هذا هو معنى الوضع التعيني فالوضع التعييني الذي نقول بأنه ينشأ من كثرة الاستعمال، حقيقته هذا النحو، يعني إيجاد صغرى من قبل الإنسان للقانون الثاني، و هو أن إدراك أحد المتقارنين بوجه مخصوص، يؤدي إلى الانتقال إلى مقارنه و تصوره، فمثلا: الإنسان يوجد الصغرى- التقارن بين هذا الصوت الفلاني و بين الرجل الشجاع- فإذا أوجد هذا التقارن متكررا، فقد أوجد الصغرى من القانون الثاني، و هذه الصغرى هي الوضع التعيني.
إذن فالوضع التعيني: هو إيجاد صغرى للقانون الثاني، إيجاد تقارن متكرر بكثرة الاستعمال بين اللفظ و المعني‏
ثم إن الإنسان يصبح عنده ألفة و استيناسا بأن ينتقل من الأصوات إلى المعاني بحيث يصبح هذا الأمر مألوفا، فإذا سمع صوتا يعرف أن هذا لا بد له من معنى، هنا يجي‏ء الوضع التعييني، فحينئذ الواضع طبقا للحاجة يضع بعض الألفاظ لبعض المعاني، يعني يقرن ما بينهما قرنا آنيا دفعيا في عملية ملفتة للنظر مؤكدة، من قبيل عملية المرض «ببغداد».
بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 55
فالوضع التعييني يحسب الحقيقة هو: إيجاد صغرى لكبرى القانون التكويني الثانوي الثاني، و ليس فيه أي تصرف من قبل الواضع، سوى إيجاد صغرى لهذا القانون، بأن يقرن أحدهما بالآخر قرنا أكيدا شديدا.
و من هنا يتضح من أن إتعاب النفس، في أن الواضع هل يعتبر اللفظ على المعنى، أو تحت المعنى، أو أداة للمعنى، أو وجودا تنزيليا للمعنى، كل هذا لا معنى له، لأن النكتة المطلوبة من الوضع، هي إيجاد صغرى لهذا القانون التكويني في نفسه. و إيجاد الصغرى، بأن يوجد حادثة، بحيث يقترن فيها اللفظ مع المعنى، اقترانا أكيدا شديدا، و هذا الاقتران الأكيد الشديد، تارة يحصل بكثرة الاستعمال، و أخرى يحصل بإنشاء، كإن يرزق ولد مثلا و يقول: سميته عليا. هذا هو الوضع التعييني.
توضيحات و تفريعات:
اتضح مما تقدم، أنه بالإمكان، تعريف الوضع: بأنه جعل اللفظ بحيث يقترن اقترانا مؤكدا في تصور الإنسان و ذهنه، فيدخل حينئذ في صغرى قانون ثانوي تكويني، و هو قانون الانتقال من تصور أحد المتقارنين إلى تصور مقارنه، و هذا التأكيد في الاقتران.
إما أن يكون بلحاظ تكرره كما هو الحال في الوضع التعيني.
و إما بلحاظ كيفية مخصوصة فيه كما هو الحال في الوضع التعييني.
و بناء على ذلك تتضح أمور:
أ- الأمر الأول: أن الوضع ليس من الأمور الإنشائية التسبيبية التي تحصل بالإنشاء من قبيل البيع و نحوه من العناوين المعاملية و الإنشائية: فالبيع لا إشكال في أنه عنوان إنشائي، و إن وقع الكلام في المنشأ، فهل المنشأ بالبيع تمليك المال بعوض، أو المنشأ عنوان مبادلة مال بمال، إلى غير ذلك مما ذكر في المكاسب؟. فالبيع أمر إنشائي لكن يقع الكلام في تشخيص ذلك‏

بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 56
المعنى المنشأ الذي يوجد بالبيع و ينشأ بالبيع.
و أما الوضع فهو ليس أمرا إنشائيا.
و أما الوضع التعيني فهذا فيه واضح، حيث لا إنشاء، و لا جعل من قبل إنسان مخصوص.
و أما الوضع التعييني فيما إذا حصل الاقتران الأكيد بين اللفظ و المعنى بعملية واحدة دفعية آنية، حينئذ، قد يصدر إنشاء من قبل الواضع كأن ينشئ و يسمي ولده زيدا مثلا. لكن هذا الإنشاء له حيثيتان:
الحيثية الأولى: حيثية إنشائية إيجادية لمعنى اعتباري، كأن يقول جعلت اسم زيد وجودا تنزيليا لابني، فهذا الإنشاء يلحظ بلحاظ هذه الحيثية باعتباره إيجادا إنشائيا لمعنى خيالي، و هو أن هذا اللفظ عين ذاك المعنى، و هو بلحاظ هذه الحيثية لا يوجد شيئا، فلا يكون وضعا، و لا يكون ميزانا للدلالة بين اللفظ و المعنى.
الحيثية الثانية: حيثية إنشائية تكوينية، بحيث أن هذا الإنشاء يوجد تكوينا نحو اقتران في ذهن السامع بين اللفظ و المعنى، و هذا الاقتران المتعمق المتأكد الذي يوجد بين اللفظ و المعنى، يكون الميزان فيه، دلالة اللفظ على المعنى، لصيرورته حينئذ صغرى من ذلك القانون الثانوي التكويني.
و على هذا الأساس فالوضع التعييني بما هو وضع، و بما هو ميزان لدلالة اللفظ على المعنى ليس وضعا إنشائيا بلحاظ الحيثية الأولى الاعتبارية، لأنه لا يوجد شيئا، و لا يكون ميزانا للدلالة.
و على هذا، لا يهم التحدث عما هو المنشأ في هذا الإنشاء، سواء أ كان المنشأ هو جعل اللفظ على المعنى، أو أداة لتفهيم المعنى، أو وجودا تنزيليا للمعنى.

بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 57
بل المهم في المقام: هو الحيثية الثانية لهذا الإنشاء، الحيثية التكوينية لا الحيثية الاعتبارية الجعلية.
و على هذا البناء، فالوضع بما هو وضع، و ميزان لدلالة اللفظ على المعنى، ليس أمرا إنشائيا اعتباريا، لا الوضع التعيني، و لا الوضع التعييني.
ب- الأمر الثاني: إن دلالة اللفظ على المعنى التي تنشأ من الوضع، هي دلالة تصورية، و ليست دلالة تصديقية، فإن الدلالة كما أشرنا سابقا على نحوين:
النحو الأول: دلالة تصورية، بمعنى متى ما سمعنا لفظ (الأسد) و انتقش في ذهننا، انتقل إلى تصور الحيوان المفترس.
النحو الثاني: دلالة تصديقية، بمعنى أن لفظ (الأسد) يدل على أن المتكلم أراد بهذا الكلام تفهيم الحيوان المفترس.
إذن بناء على ما أوضحناه في حقيقة الوضع، صار معلوما أن الوضع لا يوجد إلا الدلالة التصورية، لأن الوضع ليس إلا إيجاد صغرى للقانون الثانوي التكويني، لأن مفاده، إنه متى ما اقترن شيئان: (السكوني، و النوفلي) اقترانا أكيدا، و تصورنا أحدهما، تصورنا الآخر، سواء سمعنا لفظ (السكوني) من عاقل، أو نائم، أو من اصطكاك حجرين، انتقل ذهننا إلى تصور (النوفلي).
هذا هو معنى الدلالة التصورية.
و أما الدلالة التصديقية: معناها، إنه متى ما سمعنا إنسانا عاقلا ملتفتا يقول: (أسد)، نعرف أنه قد أراد بهذا اللفظ تفهيم المعنى الذي وضع له في لغة العرب، و هذه الدلالة ليست مربوطة بالوضع، و إنما هي باعتبار ظهورات حالية و سياقية و عقلائية، زائدا على الوضع.

بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 58
و قد اعترض على ذلك، السيد الأستاذ «1»، بأن الدلالة التي تحصل من اصطكاك حجرين، لا ينبغي أن تكون دلالة وضعية و مجعولة من قبل الواضع، فإن الواضع حكيم لا يعقل أن يجعل اللفظ دالا على المعنى مطلقا، حتى لو صدر اللفظ من اصطكاك حجرين، لأن مثل هذا الإطلاق لغو، و غرض الواضع هو أن يتفاهم الناس العقلاء فيما بينهم، لا أن يتفاهم الناس مع الأحجار.
إذن فلا بد و أن يكون المجعول من قبل الواضع مخصوصا بخصوص ما إذا صدر اللفظ من العاقل الملتفت، لا فيما إذا صدر من قبيل الحجر، و نحوه.
و هذا الإشكال كأنه مبني على التصور القديم لمعنى الوضع، فإذا كان الوضع عبارة عن أمر إنشائي مجعول من قبل الواضع، من قبيل جعل الملكية في باب البيع من قبل البائع، و هكذا من المجعولات التشريعية الإنشائية التي يتصور فيها الإطلاق و التقييد، حينئذ يقال: بأن هذا المجعول الإنشائي من قبل الواضع- دلالة اللفظ على المعنى- مطلقا، حتى لما إذا اصطك حجر بحجر، أو يجعله لخصوص ما إذا صدر من إنسان عاقل ملتفت؟.
حينئذ قد يقال: لا معنى لأن يجعله الواضع مطلقا، بل ينبغي جعله مقيدا، لأن مثل هذا الإطلاق لغو، إذن فيجعله مقيدا، فيختص مجعوله الإنشائي بخصوص اللفظ الصادر من العاقل.
و لكن بناء على ما أوضحناه، من أن الوضع ليس مجعولا إنشائيا من قبيل مجعولية التمليك بعوض في باب البيع، حتى يتصور له الإطلاق و التقييد، و إنما هو أمر تكويني قد يستعان في مقام تحقيقه بعبارة إنشائية، فيقول مثلا: سميت ولدي زيدا.
فالوضع بحسب الحقيقة هو عبارة عن أن يقف إنسان أمام إنسان آخر
__________________________________________________
(1) محاضرات في أصول الفقه- فياض: ج 1/ ص 52.

بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 59
فيقرن اللفظ مع المعنى، و بعد لا يفرق بين أن يصدر هذا اللفظ من إنسان أو حيوان أو حجر، فيدل هذا اللفظ على هذا المعنى، و لا معنى لأن يشكل على الواضع بأنه لا فائدة من انتقال اللفظ من الحجر إلى معناه، فيقول: بأن هذا أمر لا يتبعض و لا يتجزأ إذ إن هذا ليس بابه باب المجعولات الإنشائية حتى أقيده و أخصصه بمقدار الحاجة، بل هذه عملية واقعية تكوينية، أقرن اللفظ مع المعنى فحينئذ يقترن اللفظ مع المعنى على أي حال. و لهذا قد يحصل هذا الاقتران من قبل الواضع التعييني بلا إنشاء أصلا، و بلا جعل، كما هو الحال في الاقترانات التي تلقى في أذهان الأطفال بين الألفاظ و المعاني، فكما ينشأ في نفس الطفل دلالة (الماما، و البابا، و الحليب) بسبب هذه الاقترانات، بأن تمسك الأم القارورة بيدها و تقول له (حليب) عدة مرات، دون أن تستعمل أي إنشاء، و دون أن تقول له وضعت لفظة (حليب) لهذا السائل تحته، أو جعلتها معنى تنزيليا له، فبحسب الحقيقة، أن يقترن أحدهما بالآخر، كما لو كتب لافتة و جعل فيها صورة القارورة، و إلى جانبها لفظة (حليب)، فحينئذ، متى ما رأينا صورة القارورة، يقترن في ذهننا لفظة (حليب) مع الحليب، و هكذا، متى ما سمعنا هذه الكلمة انتقل ذهننا إلى هذا المعنى.
إذن فالوضع ليس مجعولا إنشائيا ليتصور فيه الإطلاق و التقييد، ليقال: بأن هذا إطلاقه لغو.
ج- الأمر الثالث: يتساءل فيه، أ ليس من المعروف أن العلم بالوضع له دخل في الانتقال إلى المعنى؟ فما هو معنى هذا؟.
يتضح مما ذكر و هو أن العلم بالوضع له دخل في الانتقال إلى المعنى، معناه: إن الوضع بوجوده النفس الأمري، لا يوجد اقترانا في الذهن ما بين اللفظ و المعنى، إذ إنه موجود في المنجد. فما لم يوجد اقتران في ذهني بين اللفظ و المعنى، لا يصير هناك وضع حقيقة بالنسبة لي، و إنما يكون وضعا بالنسبة إلى الغير الذي اقترن اللفظ و المعنى في ذهنه بشكل متعمق متأكد.

بحوث في علم الأصول، ج‏2، ص: 60
و هذا الاقتران المتأكد يحصل غالبا بالنسبة إلى الإنسان العاقل بالعلم بالوضع، و يحصل أحيانا للصغار و الكبار بغير طريق العلم بالوضع، بطريق التلقين من دون أن يعلم بالوضع، لعجز الطفل عن إدراك أن اللفظ الفلاني موضوعا للمعنى الفلاني، لكن بالتلقين و التكرار، يحصل له ما يجعل اللفظ و المعنى، مقترنين في ذهنه من دون أن يعلم بالوضع، و مع هذا ينتقل من اللفظ إلى المعنى، لأنه حصل بدلا عن العلم بالوضع، التلقين بالنسبة إلى الطفل، فتمت دلالة اللفظ على المعنى.
و بهذا تم الكلام في الجهة الأولى و هي: حقيقة الوضع. و بتمام الكلام في الجهة الأولى، يتضح الكلام في الجهة الثانية إجمالا، و لذلك سوف يكون الكلام في الجهة الثانية مختصرا. في تشخيص حقيقة الواضع، و من هو؟ هل هو الله تعالى؟ أو هو شخص مخصوص من الناس؟. أو الجماعة البشرية.
بمجموعها على امتداد تاريخها؟.



****************








فایل قبلی که این فایل در ارتباط با آن توسط حسن خ ایجاد شده است