رفتن به محتوای اصلی

أضواء على الرسالة المنسوبة إلى الحافظ الذهبي-النصيحة الذهبية-القونوي


أضواء على الرسالة المنسوبة إلى الحافظ الذهبي-النصيحة الذهبية-القونوي

محمد بن أحمد الذهبي شمس الدين(673 هـ - 748هـ، 1275م - 1347م)
شرح حال محمد بن أحمد الذهبي شمس الدين(673 هـ - 748هـ، 1275م - 1347م)
کتاب زغل العلم
نسخه‌ها و چاپ‌های کتاب زغل العلم
لا تصح نسبة رسالة "بيان زغل العلم والطلب" إلى الإمام الذهبي--سایت اهل الحدیث
ما هذا الكلام الذى يقوله الإمام الذهبى عن شيخ الإسلام--سایت اهل الحدیث
زغل العلم للإمام الذهبي--سایت اهل الحدیث



النصيحة الذهبية
الاقوال في النصيحة الذهبية
أضواء على الرسالة المنسوبة إلى الحافظ الذهبي-النصيحة الذهبية-القونوي



قدح عظيم ذهبي در ابن تيميه---منصفانه‌ترين نقد ابن تيميه در طول تاريخ--تاپیك حسین در سایت انجمن اینترنتی مسلمان








تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب : أضواء على الرسالة المنسوبة إلى الحافظ الذهبي
أضواء على الرسالة المنسوبة إلى الحافظ الذهبي
النصيحة الذهبية لابن تيمية
وتحقيق في صاحبها
تأليف
محمد عبدالله أحمد
أبو الفضل القونوي
قام بنشرها أبو عمر الدوسري
www.frqan.com
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إإإه إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله.
أما بعد فهذه دراسة جديدة لرسالة اشتهرت باسم «النصيحة الذهبية لابن تيمية» ونُسبت غلطاً ـ أوقصداً ـ إلى الإمام الحافظ مؤرخ الإسلام؛ أبي عبد الله الذهبي (ت 748 هـ) رحمة الله عليه، صاحب التصانيف البارعة التي خدم بها الحديث النبوي والعلوم الإسلامية، وحسبك دلالة على علو قدره في العلم؛ أن الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ)«قد شرب ماء زمزم لنيل مرتبته، والكيل بمعيار فطنته»(1).
ومنذ أن ظهرت هذه «النصيحة» إلى عالم المطبوعات قبل خمسٍ وسبعين سنة،وهي موضع جدال بين أهل الاختصاص فمن مُسَلّم بأن الذهبي أنشأها، ومن دافع في صدر هذا الزعم، مشككٍ فيه، قائل بتزويره عليه، ولا ريب عندي: أن الذهبي بريء من إرسالها براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.
إلا أن حديث التزوير والتنحُّل على مؤرخ الإسلام قد تراجع في دراستي هذه إلى الاحتمال الأخير، وتراجع معه الاحتمال المفظع، ألا وهو رمي واحد من نساخها الأعلام الثقات بتكذُّبها واختلاقها، وذلك بعد أن بدا لي واضحاً (البطائحي) الذي كتبها ـ تَبَّت يده ـ وأرسلها إلى شيخ الإسلام، في كثير من نمطها أغلب الظن، وإن شئت أن تشاركني الرأي فاقرأ ثم احكم.
(1/1)



************
ولقد أحسن من سبقني إلى دراستها وألف في ذلك (التوضيح الجلي في الرد على النصيحة الذهبية)، أعني: الأستاذ محمد بن إبراهيم الشيباني الكويتي، ولكن يُطمع من فاضل مثله أن يعيد النظر في دراسته، مع التأمُّل في ما ذهبت إليه، لعله يفيدني بعض ما ندّ عني صوابه.
وأخيراً فهذا جهد المُقل، فاللّهمّ إن كان صواباً فأَعظِم لي الأجر، وإن كان خطأً فاشملني بعفوك، فإني ما رُمْتُ إلا جلاء الحقّ الذي يُرضيك، وإلا نصر أوليائك، والذبّ عن دعاة هدي نبيك صلى الله عليه وسلم، اللّهم واجمعني مع سلف الأمة الطيّب تحت لواء سيد ولد آدم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والحمد لله أولاً وآخراً.
وكتب أبو الفضل محمد بن عبد الله القونوي
15/1/1423 هـ
المدينة المنورة
الباعث على دراسة «النصيحة»
ب666/ب66
كان كتاب (جامع كرامات الأولياء) للنبهاني (ت 1350 هـ) من مصادري التي رجعت إليها في دراستي عن القلندرية وتاريخها(1)، فكان أن لفت انتباهي في مقدمته التي ذكر فيها مصادره قوله: «... وتفاح الأرواح، لكمال الدين محمد بن أبي الحسن على السراج، الرفاعي القرشي الشافعي، من أهل القرن الثامن، كان معاصراً للسبكي وابن تيمية، وكتابه هذا مجلدان في كرامات الأولياء، وقع لي منه المجلد الأول فقط...»(1).
فقلت لنفسي: هذا رفاعي معاصر لشيخ الإسلام فلا يستبعد أن يعرض بالذكر له ولمن كان أبو العباس رحمه الله تعالى مسلطاً عليهم ـ بتعبير الصفدي ـ(1) أعني زمر القلندرية، ولكن أين أقع على كتابه؟
وكانت لي سفرة إلى الرياض، فلما جئتها قصدت أحد صروح المعرفة بها، وهو: (مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية)، فخطر ببالي أن أسأل قسم المخطوطات به عن (تفاح الأرواح) هذا، فكانت المفاجأة الأولى قول الموظف القاعد على المحساب: «هو بمكتبة الملك فهد الوطنية».
(1/2)



************
فلما حصلت على مصورة:(تفاح الأرواح) وطالعته، ألفيته أكثر أهمية مما تخيلت وعلمت أن الذي لم يقف عليه النبهاني هو:(تشويق الأرواح) فأرسلت إلى المحقق وخبير المخطوطات التركي، الأستاذ: يوسف أوزبك أسأله أن يفتش عنه (باصطمبول) ولقد كانت المفاجأة الأخرى إذ هتفتُ به بعد أيام فقال لي: (وجدت تشويق الأرواح..) فلما أن جاءتني نسخة منه، عرفت أني أدركت كنزاً في الموضوع الذي أنا بصدده وزيادة.
وكان مما تَبين لي حينها؛ أن مؤلف ذين الجزأين هو الرجل الذي تتجه إليه أصابع الاتهام بإنشاء: «النصيحة الذهبية» وإرسالها إلى أبي العباس بن تيمية رحمة الله عليه للقرائن التي في الكتاب بجزأيه، ولِما تحتويه «النصيحة».
فعزمتُ على دراسة «النصيحة» وكلام ابن السراج في مؤلفه، وطلبتُ النسخة التي هي بخط ابن قاضي شهبة، وعلقت عليها بعض التعليقات، وفق الذي جدّ في المسألة، أبتغي بذلك تأكيد براءة الحافظ الذهبي منها.
مخطوطة «النصيحة» وناشرها الأول
ذكر الدكتور بشار عواد معروف البغدادي(1) أن النسخة التي هي بخط ابن قاضي شهبة (ت851 هـ) في دار الكتب المصرية ورقمها (18823 ب) وقال إن منها نسخة بدار الكتب الظاهرية، ورقمها (1347)، ولم يتبين لي إن كان يعني أنها بخط ناسخ آخر، أو أنها صورة عن الأولى.
وقد حصلت على التي بدار الكتب المصرية وهي التي كان يملكها الكوثري (ت 1371 هـ) وعليها كان اعتماده لمّا نشرها سنة: 1347 هـ ثم أهداها إلى دار الكتب المذكورة، ولم ينس أن يلحق بها كلمة زاد بها وضر «النصيحة» وضراً، وأنا أسوقها لأمانة العلم:
«كلمة في الرسالة التي بعث بها الحافظ الذهبي
إلى الشيخ أحمد بن تيمية الحراني تحذيراً له عن
الإصرار في الشذوذ عن جماعة أهل العلم
في مسائل خطرة (!!)
بسم الله الرحمن الرحيم
(1/3)



************
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فدونك رسالة بعث بها الذهبي إلى أحمد بن تيمية الحراني ينصحه فيها، ويحذره عواقب إصراره على الشذوذ عن جماعة أهل العلم في مسائل اعتقادية وعملية خطرة (!!).
كنت ظفرت بتلك الرسالة، منقولة بخط التقي بن قاضي شهبة، ضمن دشت(1) عرضه الأستاذ السفرجلاني(1) للبيع، فبادرت إلى شرائها بثمن يتناسب مع قيمة هذه الوثيقة الثمينة حتى تم عرضها لأنظار الفاحصين بنشرها مع (زغل العلم) للذهبي.
ثم ارتأيت إهداء الأصل إلى دار الكتب العربية الكبرى الملكية بمصر، ليحفظ بها حتى يتمكن الباحثون من الاطلاع عليها متى شاؤوا ذلك.
وقد ذكر ابن قاضي شهبة في صدر الرسالة: أنه نقلها من خط البرهان بن جماعة، المنقول من خط الحافظ أبي سعيد صلاح الدين بن العلائي، المكتوب من خط مرسلها الشيخ شمس الدين الذهبي، ولا ريب في جلالة قدر هؤلاء العلماء.
وثمة عدة كتب بخط ابن قاضي شهبة، بالخزانة الظاهرية بدمشق، وبدار الكتب العربية الكبرى بمصر، ففي إمكان الباحث أن يقارن خط هذه الرسالة بخط تلك الكتب، إن لم يكن من الذين مارسوا خطوط العلماء الأقدمين.
وقد ذكر ابن قاضي شهبة نفسه في (طبقات الشافعية) في ترجمة البرهان ابن جماعة: إني رأيت مجاميع بخط البرهان المذكور فنقلت منها فوائد(1).
وأشار الحافظ السخاوي في (الإعلان بالتوبيخ) إلى هذه الرسالة، حيث قال في صدد الدفاع عن الذهبي، رداً على من ينسبه لفرط التعصب: «ورأيت له رسالة كتبها لابن تيمية هي في دفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة» بعد أن نقل السخاوي قول الذهبي في (زغل العلم) في حق ابن تيمية: «... وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقون...» و«... ثم صار مظلماً مكسوفاً عليه قتمة عند خلائق من الناس، ودجالاً أفاكاً كافراً عند أعدائه ومبتدعاً فاضلاً محققاً بارعاً عند طوائف من عقلاء الفضلاء..»(1).
(1/4)



************
وكان أحمد بن تيمية الحراني تمكن من اجتلاب ثقة شيوخ مصره إليه، وثنائهم عليه، بحسن سمته، وطلاقة لسانه، وسيلان قلمه، ثم بدأ يذيع آراءً مستبشعة في المعتقد وفي الفروع، عاماً بعد عام، حتى عيل صبر العلماء الذين كانوا أطروه بأول الأمر، فتخلوا عنه واحداً إثر واحد، بعد أن ذاقوا مرارة تسرعهم في إطرائه قبل أن يختبروه اختباراً كافياً.
وكان في جملة المتسرعين في إطرائه ـ اغتراراً منهم بمظهره في بادىء الأمر ـ الجلال القزويني صاحب (الإيضاح) و(التلخيص)، والكمال الزملكاني، وقاضي القضاة الحريري، وقاضي القضاة القونوي، وأبو الحجاج المزي، والذهبي.
ولما استفحل أمر فِتَنِ ابن تيمية على تعاقب السنين، وأصبح علماء السنة إلباً واحداً ضده، ولم يبق معه سوى شيعته؛ من الحشوية كان الذهبي يسعى في تهدئة الفتنة بأن يعتب تارة أضداده على تشددهم في ابن تيمية، ويدعوهم إلى تخفيف اللهجة نحوه، مراعاة لسعة علمه، كما فعل مع التقي السبكي برسالة أرسلها إليه، على ما أشار إليها الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، حيث ذكر صدر جواب السبكي عنها(1).
وبأن يرسل مرة أخرى هذه الرسالة إلى ابن تيمية نفسه، ينصحه فيها كما ترى، فها هو الأصل في ورقتين بقطع الثمن في صفحتين وثلث صفحة، بخط التقي بن قاضي شهبة، وحيث إن الأصل صعب القراءة لكثير من القراء ارتأيت أن أكتب صورة الأصل، بعد الورقتين المذكورتين.والله هو الهادي.
في 7 شوال سنة 1354 هـ».
قلت: ولا بدّ من تعليق مختصر على كلام الكوثري عدو نفسه: فأنت ترى أنه قد فرح بوقوعه على هذه «النصيحة» حين عبَّر عن ذلك بأنه ظفر بها، فبادر إلى شرائها بثمن يتناسب مع قيمة هذه الوثيقة الثمينة، وهي فرحة يشاركه فيها (الكوثريون) إلى يومنا هذا وقد آن أن تردّ تَرْحَةً عليهم.
(1/5)



************
لقد خان الكوثري أمانة العلم، في مواضع يطول ذكرها، وأنت ههنا أمام أنموذج يدلك على شنشنته مع إمام كبير، وقدوة عَلَم كابن تيمية، هذا المجتهد الورع، والعبقري المقدام، وشيخ الإسلام بحق، يروم الكوثري حطّه عن رتبته فلم يزده ذلك إلا رفعة وقبولاً في قلوب الأمة الإسلامية، وباء شانئه بالخسار، والله الموعد.
وإن من مكر هذا (الكوثري) استغلاله عبارة للسخاوي (ت902هـ) رحمه الله، جاءت في سياق موهم، فإن عبارته هذه: «وقد رأيت له عقيدة مجيدة، ورساله كتبها لابن تيمية، هي لدفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة، وقال مرة فيه... الخ». ثم أورد كلاماً من (زغل العلمِ) هذه العبارة وهذا السياق يوهم أنه رأى «النصيحة»، و(زغل العلم). والذي أراه: أن الكوثري اهتبلها فرصة وأعمل حيلته، فزعم للقارىء أن (الرسالة) التي وردت في كلام السخاوي غير (زغل العلم)(1).
والأظهر من كلام السخاوي أنه يعني بالرسالة (زغل العلم) وليس «النصيحة» ألا ترى أنه لم ينقل فقرة واحدة من «النصيحة» وهي في بشاعتها أكثر دلالة على دفع تعصب الذهبي لشيخ الإسلام، مما في (زغل العلم) بكرات ومرات(1).
وأخرى أنه ـ وأعني الكوثري ـ حَرَّف ترتيب كلام السخاوي في خفاء لم يَنتبه له من خُدع به فهو ينقل قول السخاوي: «وقد رأيت له عقيدة مجيدة، ورسالة كتبها لابن تيمية»(1) ثم يضيف قائلاً: «بعد أن نقل السخاوي قول الذهبي في (زغل العلم) في حق ابن تيمية...» والواقع العكس فإن «بعد» هذه ليست سبق قلم من مثل الكوثري، وإنما كانت منه ليستقيم له الزعم بأن السخاوي اطلع على «النصيحة».
أما كلامه على الذهبي بخاصة فهو الدليل الكبير، في كلمته هذه على أنه كان ألعوبة للهوى والشيطان، إن لم يكن لحقه حمق صوفيته. أكان الذهبي ـ يا عديم الإنصاف ـ في مثل بذاءتك، حتى ينصح شيخه بالسباب والشتائم ؟ وبالأسلوب الذي لم نشهده منه، حتى في خطابه للفلاسفة والملاحدة والوجودية؟!
(1/6)



************
أيدعو أبو عبد الله الذهبي أضداد شيخ الإسلام؛ ابن تيمية، إلى تخفيف لهجتهم نحوه، ثم يبعث إليه برسالة صخرية اللهجة، عنيفة الوقع، سوقية العبارات، أكثر خصومه تورعوا عن مثلها؟!
ولقد عرف كل طالب علم منصف كذبك، وتحريفك للحقيقة، وبَتْرك المعلومة، حتى تلج إلى مبتغاك الخبيث، كقولك هنا: «إنَّ أناساً من العلماء تسرعوا في إطرائه، ثم إنهم ذاقوا مرارة ذلك»، ألا فلا مُرَّ إلا ما ستلقى إن شاء الله تعالى(1).
وأستحسن أن أنقل لك شهادة من طبع «النصيحة»، وتلمذ للكوثري مدة من الزمان، ثم قلاه وتبرأ منه، أعني: محمد حسام الدين القدسي (ت1400 هـ)،قال في مقدمة كتاب:(الانتقاء) للإمام ابن عبد البر رحمه الله: «... هذا، وقد كان الشيخ محمد زاهد الكوثري، يصحح الكتاب ويعلق عليه، ثم أوقفت ذلك في الصفحة (88)، لما اطلعت عليه من دخلة في علمه وعمله، دفعتني إلى النظر في تعليقاته، على النزر من مطبوعاتي، بغير العين التي كانت لا تأخذ منه إلاّ عالماً مخلصاً.
فرأيته في بعضها باحثاً بمادة واسعة، وتوجيه لم يسبق إليه، وهو شطر السبب في إعجابي به، بما تأتّى إليه من عدم النفاذ إلى أغراضه، وفي بعضها يحاول الارتجال في التاريخ، تعصباً واجتراء، والباقي تعليق ككل تعليق وكلام ككل كلام.
وخيفة أن أشاركه في الإثم إذا سكتُّ عن جهله، بعد علمه، سقت هذه الكلمة الموجزة، معلناً براءتي مما كان من هذا القبيل...»(1).
الرأي في سبب انخداع بعض العلماء بـ«النصيحة»
لا يخالجني شك في أن لمكر الكوثري بقرائه،وإيحائه لهم بأن السخاوي قصد بالرسالة التي رآها هذه: «النصيحة» حتى كرر ذلك غير مرة في المطبوع منها وفي كلمته السابقة التي ألحقها بالمخطوطة،وفي غير ذلك من تعليقاته، دخلاً في تورط محققين فاضلين، بالقول بصحة نسبة «النصيحة» للذهبي فناديا بإثباتها ولم يُعرِّجا على الشك بها، وهو ماثل أمامهما بسبيل مقيم.
(1/7)



************
أما أحدهما فهو الدكتور المحقق صلاح الدين المنجد الذي ألحق «النصيحة» بكتابه: (شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين) ثم قال معلقاً عليها: «شك بعضهم في نسبة هذه النصيحة للذهبي، ولا شك عندنا أنها له، فقد نقلت مخطوطاتها من خط الذهبي، ولم ينكرها أحد من العلماء الذين نقلوها كتقي الدين بن قاضي شهبة وغيره. ثم إن هذا هو أسلوب(1) الذهبي عندما يُهاجم، ويبدو أنه كتبها في آخر عمره. ولم يثن أحد على الشيخ كثناء الذهبي عليه، لكنه انتقده بعد ذلك في بعض الأمور حباً له، وإشفاقاً عليه»(1).
وأما الآخر فهو الدكتور المحقق بشار عواد معروف،الذي قال في كتابه: (الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام) وهو يتحدث عن انفراد السخاوي بذكر بعض آثار الذهبي: «... وهو الوحيد الذي أشار إلى رسالة الذهبي إلى ابن تيمية، مما وثق نسبتها إليه لا سيما وقد شك فيها غير واحد...».
ثم أوردها في عداد آثاره، ونقل كلام السخاوي الذي سقته لك آنفاً وقال: «وذهب بعضهم إلى القول بأنها مزورة، ولا عبرة بذلك» وكرر ذلك في مقدمته على (سير أعلام النبلاء) قائلاً: «.. وأرسل إليه نصيحته الذهبية التي يلومه وينتقد بعض آرائه وآراء أصحابه بها..»(1).
وليس بخافٍ على مثل المحققين الفاضلين أن كون هذه «النصيحة» بخط ابن قاضي شهبة وأنه نقلها من خط البرهان بن جماعة (ت 790 هـ) وأن هذا نقلها من خط العلائي (ت 761 هـ)، وهو من خط الذهبي، لا يعني بحال انعدام احتمالات تبرىء الذهبي عن إنشائها فإنه يرد من ذلك ما لا نحتاج معه إلى مخالفة الأقرب إلى المعقول أو النيل من عرض أحد هؤلاء ونحت أثلته.
وهذه بعض الاحتمالات، التي كان من الممكن أن يُورداها تبرئة للذهبي رحمه الله تعالى، واعتذاراً عن ابن قاضي شهبة، وابن جماعة، والعلائي، وذلك قبل وقوفي على كتاب؛ محمد بن السراج الدمشقي:
(1/8)



************
1ـ يحتمل أن تكون من وضع أحد أعداء ابن تيمية ـ وما أكثرهم ـ وأن واضعها قلد خط الذهبي تقليداً محكماً ثم جعلها حيث يقع نظر العلائي عليها.
2ـ ويحتمل أن الذي زورها قلد خط العلائي، وأوقف البرهان بن جماعة عليها.
3ـ ويحتمل أن الخط المزور هو خط ابن جماعة، وأن الواهم هو ابن قاضي شهبة.
ثم ألم يلحظا أن هؤلاء الأعلام ـ فضلاً عن غيرهم ممن اطلع على النصيحة ـ لم يُعرف عنهم الإشارة إليها مستشهدين بها على تناقض حكم إمام في الجرح والتعديل؛ كالذهبي في الرجال الذين عاصرهم وجالسهم ؟ فالنَّقَدَةُ من أقرانه وتلاميذه متوافرون، ولو أن عبد الوهاب السبكي (ت 771 هـ) وأمثاله وقعت إليهم لأعظموا الوَلْوَال.
هذا الحافظ العلائي رحمه الله، ينقد الذهبي عندما ترجم للأمير تنكز (ت 741 هـ) قائلاً: «لقد بالغ المصنف، وتجاوز الحدّ في ترجمته تنكز، وأين مثله؟ وأعرض عن محاسنه الطافحة..» ثم قال: «ذنب تنكز أنه كان يحط كثيراً على ابن تيمية»(1) فلو أنه نسخ «النصيحة» لما أخلاها من تعليق مناسب، نقله ابن جماعة ومن بعده. أما شكّا هنيهة من سكوت السخاوي عن نقل فقرات منها في أي كتاب له على افتراض أنه قد رآها ؟
تفسيري لما أفترضُ أنه وقع، والعلم عند الله تعالى:
بعد أن عثرت على كتاب ابن السراج الدمشقي، الذي أتهمه بكتابة «النصيحة»، ودرست كلامه، وتأملت «النصيحة»، خلصت إلى هذا التفسير الذي يقبله العقل، ولا تردُّه العادة.
(1/9)



************
لقد تأملت في كلمة وردت في نهاية مخطوطة «النصيحة» وهي هذه: «آخر الرسالة الذهبية نصيحة منه لابن تيمية» فظهر لي أنها مكمن الظن الخاطىء، الذي أدى إلى رمي الذهبي بإنشائها، وذلك أنه يُفهم من كتاب (التشويق) و(التفاح) لابن السراج أنه كان مولعاً بالسجع جداً، وأنه كان يُصدِّر رسائله بعناوين مسجوعة، وأنه في رسالته هذه، سار على المعهود من أمره، فكتب هذا العنوان (الرسالة الذهبية إلى ابن تيمية)، أو لعله كتب (رسالة ذهبية إلى ابن تيمية) على أن مراده من لفظ (الذهبية) الذهب المعروف، أي أنها في قيمة هذا المعدن الثمين فلما وقعت هذه الرسالة إلى الحافظ العلائي، حسب أن نسبة الذهب فيها إلى شيخه الحافظ الذهبي، وأداه المتبادر إلى الذهن، من هذه اللفظة إلى الذهول عن أن الخط ليس لشيخه، فاستنسخ منها لنفسه ثم تابعه من نسخها عنهُ.
ويمكن أن يكون الذهبي قد نسخها حين رآها بخط ابن السَّرَّاج، لمقصد عنده، كما يفعل المؤرخ المجمّع لمادته العلمية على أن يقول فيها رأيه بعد، ثم لم يتيسر له ذلك، وبقيت بخطه حتى عثر عليها العلائي.
وعلى هذا فما كُتِبَ بأول الرسالة من قبل أحد النساخ ـ وأظنه الحافظ العلائي ـ من قوله: «رسالة نصيحة من الذهبي لابن تيمية عفا الله عنهما» هو من اجتهاده وفهمه، إذ رأى في صدر الرسالة ما رأى.
مكانة ابن تيمية عند الذهبي
قال الإمام الحافظ مؤرخ الإسلام؛ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، في كتابه (ذيل تاريخ الإسلام): «ابن تيمية، الشَّيخ، الإمام العالم، المُفسّر، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المحدِّث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التَّصانيف الباهرة والذكاء المفرط، تقي الدين، أبو العبَّاس، أحمد، ابن العالم المفتي شهاب الدين عبد الحليم(1) ابن الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات، عبد السَّلام مؤلف «الأحكام»، ابن عبد الله ابن أبي القاسم الحَرَّاني، ابن تَيْميَّة، هو لقب لجده الأعلى.
(1/10)



************
مولده في عاشر ربيع الأوَّل، سنة إحدى وستين وست مئة، بحرَّان، وتحول به أبوه وأقاربه إلى دمشق في سنة سبع وستين، عند جور التَّتار؛ منهزمين في الليل؛ يجرون الذرية والكتب على عجلة؛ فإنَّ العدو ما تركوا في البلد دواب سوى بقر الحرث، وكلَّت البقر من ثقل العجلة، ووقف الفرار، وخافوا من أن يدركهم العدو، ولجأوا إلى الله، فسارت البقر بالعجلة، ولطف الله تعالى، حتَّى انحازوا إلى حد الإسلام.
فسمع من: ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، والكمال بن عبد، وابن أبي الخير، وابن الصيرفي، والشَّيخ شمس الدين، والقاسم الإربلي، وابن علان، وخلق كثير، وأكثر وبالغ.
وقرأ بنفسه على جماعة وانتخب، ونسخ عدة أجزاء، و«سنن أبي داود»، ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين والنبالة، والذكر، والصيانة.
ثمَّ أقبل على الفقه ودقائقه وقواعده وحججه، والإجماع والاختلاف؛ حتَّى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثمَّ يَستدل ويُرجّح ويجتهد، وحُقَّ له ذلك، فإنَّ شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه؛ فإنني ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح، أو إلى المسند، أو إلى السنن منه؛ كأن الكتاب والسنن نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف. وكان آية من آيات الله تعالى في التفسير، والتوسع فيه، لعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين.
وأما أصول الديانة، ومعرفتها، ومعرفة أحوال الخوارج والروافض والمعتزلة وأنواع المبتدعة؛ فكان لا يُشق فيه غباره، ولا يلحق شأوه.
هذا مع ما كَانَ عليه من الكرم الَّذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة الَّتي يضرب بها المثل، والفراغ عن ملاذّ النفس، من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية.
(1/11)



************
ولقد سارت بتصانيفه الركبان، في فنونٍ من العلم وألوان، لعلَّ تواليفه وفتاويه في الأصول، والفروع، والزهد، والتفسير، والتوكل، والإخلاص، وغير ذلك، تبلغ ثلاث مائة مجلد، لا بل أكثر.
وكان قوَّالاً بالحق، نهّاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة الأغيار. ومن خالطه وعرفه؛ قد ينسبني إلى التقصير في وصفه، ومن نابذه وخالفه؛ ينسبني إلى التغالي فيه، وليس الأمر كذلك. مع أنني لا أعتقد فيه العصمة، كلا! فإنه مع سعة علمه، وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدين، بشرٌ من البشر تعتريه حدّة في البحث، وغضب وشظف للخصم؛ تزرع له عداوة في النفوس، ونفوراً عنه.
وإلا والله فلو لاطف الخصوم، ورفق بهم، ولزم المجاملة وحسن المكالمة؛ لكان كلمة إجماع؛ فإنَّ كبارهم وأئمتهم خاضعون لعلومه وفقهه، معترفون بشفوفه وذكائه، مقرّون بندور خطئه.
لست أعني بعض العلماء الَّذين شعارهم وهجِّيراهم الاستخفاف به، والازدراء بفضله، والمقت له، حتَّى استجهلوه وكفَّروه ونالوا منه، من غير أن ينظروا في تصانيفه، ولا فهموا كلامه، ولا لهم حظ تام من التوسع في المعارف، والعالم منهم قد ينصفه، ويرد عليه بعلم.
وطريق العقل السكوت عما شجر بين الأقران ـ رحم الله الجميع ـ(1).
وأنا أقلّ من أن ينبّه على قدره كلمي، أو أن يوضّح نبأه قلمي؛ فأصحابه وأعداؤه خاضعون لعلمه، مقرُّون بسرعة فهمه، وأنَّه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، وأن جُوده حاتمي، وشجاعته خالدية.
(1/12)



************
ولكن قد يَنْقِمون عليه أخلاقاً وأفعالاً؛ منصفُهم فيها مأجور، ومقتصدهم فيها معذور، وظالمهم فيها مأزور، وغاليهم مغرور، وإلى الله ترجع الأمور، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، والكمال للرسل، والحجة في الإجماع. فرحم الله امرأً تكلم في العلماء بعلم، أو صمت بحلم، وأمعن في مضايق أقاويلهم بتؤدة وفهم، ثمَّ استغفر لهم، ووسَّع نطاق المعذرة، وإلاَّ؛ فهو لا يدري ولا يدري أنَّه لا يدري.
وإن أنت عذرت كبار الأئمة في معضلاتهم، ولا تعذر ابن تَيْميَّة في مفرداته؛ فقد أقررت على نفسك بالهوى، وعدم الإنصاف !
وإن قلت: لا أعذره، لأنَّه كافر، عدوّ لله تعالى ورسوله! قال لك خلقٌ من أهل العلم والدين: ما علمناه والله إلاَّ مؤمناً محافظاً على الصلاة، والوضوء، وصوم رمضان، معظِّماً للشريعة ظاهراً وباطناً. لا يؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم، فإنه بحر زخَّار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدين؛ فلو كان كذلك؛ لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه، وموافقتهم، ومنافقتهم.
ولا هو يتفرد بمسائل بالتشهّي، ولا يفتي بما اتفق، بل مسائله المفردة يحتج لها بالقرآن، أو بالحديث، أو بالقياس، ويبرهنها ويناظر عليها، وينقل فيها الخلاف، ويطيل البحث؛ أُسوةَ مَنْ تقدمه من الأئمة، فإن كانَ قد أخطأ فيها؛ فله أجر المجتهد من العلماء، وإن كانَ قد أصاب؛ فله أجران.
وإنَّما الذم والمقت لأحد رجلين: رجل أفتى في مسألة بالهوى، ولم يُبْدِ حجة، ورجل تكلَّم في مسألة بلا خميرةٍ من علم، ولا توسُّعٍ في نقل؛ فنعوذ بالله من الهوى والجهل.
(1/13)



************
ولا ريب أنه لا اعتبار بذم أعداء العالم؛ فإن الهوى والغضب يحملهم على عدم الإنصاف والقيام عليه. ولا اعتبار بمدح خواصه والغلاة فيه؛ فإن الحب يحملهم على تغطية هناته، بل قد يعدوها محاسن. وإنما العبرة بأهل الورع والتقوى من الطرفين، الذين يتكلمون بالقسط، ويقومون لله، ولو على أنفسهم وآبائهم.
فهذا الرجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالاً ولا جاهاً بوجه أصلاً، مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني، ولا عقلي أن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوباً له مغفورة في سعة كرم الله تعالى وصفحه، مغمورة في بحر علمه وجوده، فالله يغفر له، ويرضى عنه، ويرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.
مع أني مخالفٌ له في مسائل أصلية وفرعية، قد أبديت آنفاً أن خطأه فيها مغفور، بل قد يثيبه الله تعالى فيها على حسن قصده، وبذل وسعه، والله الموعد. مع أني قد أوذيت لكلامي فيه من أصحابه وأضداده؛ فحسبي الله!.
وكان الشيخ أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعَة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهْوَري الصوت، فصيحاً، سريع القراءة. تعتريه حدَّه، ثم يقهرها بحلم وصفح، وإليه كان المنتهى في فرط الشجاعة، والسماحة، وقوة الذكاء. ولم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته بالله تعالى، وكثرة توجهه. وقد تعبت بين الفريقين: فأنا عند محبه مُقصِّر، وعند عدوّه مُسرف مُكثر، كلا والله!
توفي ابن تيمية إلى رحمة الله تعالى معتقلاً بقلعة دمشق، بقاعة بها، بعد مرض جَدَّ أياماً، في ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
(1/14)



************
وصُلِّي عليه بجامع دمشق عقيب الظهر، وامتلأ الجامع بالمصلين كهيئة يوم الجمعة، حتى طلع الناس لتشييعه من أربعة أبواب البلد، وأقلُّ ما قيل في عدد من شهده خمسون ألفاً، وقيل أكثر من ذلك، وحُمل على الرؤوس إلى مقابر الصوفية، ودفن إلى جانب أخيه الإمام شرف الدين، رحمهما الله تعالى وإيّانا والمسلمين»(1).
وقال في (تذكرة الحفاظ):
«ابن تيمية الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهدُ المفسّرُ البارعُ شيخ الإسلام، عَلَم الزُّهَّاد، نادرةُ العصر، تقي الدين أبو العباس أحمد بن المفتي شهاب الدين عبد الحليم بن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحرَّاني. أحد الأعلام.
ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، وقدم مع أهله سنة سبع، فسمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، والكمال بن عبد، وابن الصيْرَفي، وابن أبي الخير، وخلق كثير. وعُني بالحديث، ونَسَخ الأجزاء، ودار على الشيوخ، وخَرَّج، وانتقى، وبرع في الرجال وعلل الحديث وفقهه، وفي علوم الإسلام وعلم الكلام وغير ذلك.
وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزُّهاد الأفراد، والشُّجعان الكبار، والكرماء الأجواد. أثنى عليه الموافِقُ والمُخالف، وسارت بتصانيفه الركبان، لعلها ثلاث مئة مجلد.
حدَّث بدمشق، ومصر، والثغر. وقد امتُحن وأُوذيَ مرات، وحُبس بقلعة مصر والقاهرة والاسكندرية، وبقلعة دمشق مرتين. وبها توفي في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، في قاعة، معتقلاً. ثم جُهِّز وأخرج إلى جامع البلد، فشهده أُمم لا يُحْصَون، فحُزروا بستين ألفاً. ودُفن إلى جنب أخيه الإمام شرف الدين عبد الله، بمقابر الصوفية، رحمهما الله تعالى.
(1/15)



************
ورُئيت له منامات حسنة، ورُثي بعدة قصائد. وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها، وهي مغمورة في بحر علمه. فالله تعالى يُسامحه ويرضى عنه. فما رأيتُ مثله. وكل أحدٍ من الأُمَّة فيؤخذ من قوله ويُترك. فكان ماذا ؟!»(1).
وقال عنه في (معجم الشيوخ):
«... شيخنا الإمام تقي الدين أبو العباس الحَرَّاني. فريد العصر عِلْماً ومعرفةً وذكاءً وحفظاً وكرماً وزهداً، وفرطَ شجاعةٍ وكثرةَ تآليف والله يصلحه ويسدِّده، فلسنا بحمد الله ممن نَغْلُو فيه، ولا نجفو عنه، ما رُئي كاملاً أئمةُ التَّابعين وتابعيهم، فما رأيته إلاّ ببطن كتاب».
ثم قال: «ولم يخلف بعده مثله في العلم، ولا من يقاربه»(1).
وقال في (المعجم المختص):
«... وبرع في علوم الآثار والسُّنَنِ، ودَرَّس وأفتى وفسَّر وصَنَّف التصانيف البديعة وانفرد بمسائل فَنيلَ من عِرْضِه لأجلها، وهو بَشرٌ له ذنوبٌ وخطأٌ ومع هذا فوالله ما مَقَلَتْ عيني مثله ولا رأى هو مِثْل نَفْسه. كان إماماً مُتبحّراً في علوم الديانة صحيح الذّهن، سريع الإدراك، سَيَّال الفَهْم، كثير المحاسن، موصوفاً بفَرْط الشجاعة والكرم، فارغاً عن شهوات المأكل والملْبَس والجماع، لا لذَّة له في غير نَشْر العلم وتدوينه والعمل بمقُتضاه.
ذكره أبو الفتح اليَعْمَري في «جواب سؤالات أبي العباس بن الدمياطي الحافظ» فقال: «ألْفَيتُهُ ممن أدرك من العلوم حَظَّاً، وكادَ يستوعبُ السُّنن والآثار حفظاً، إن تكلَّم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مُدْرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب عِلمه وذُو روايته، أو حاضَر بالنِّحَل والمِلَل لم يُرَ أوسَعُ من نِحلته ولا أرفعُ من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، لم ترَ عيني مثله ولا رأتْ عينُهُ مثل نَفْسِه».
(1/16)



************
قلتُ: قد سُجن غير مرةٍ ليفْتر عن خُصومِه ويُقْصِر عن بَسْطِ لسانه وقلمه، وهو لا يرجع ولا يلوي على ناصح، إلى أن توفي معتقلاً بقلعة دمشق في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
وشَيَّعه أُممٌ لا يُحْصَون إلى مقبرة الصُّوفية، غَفَر الله له ورحمه آمين»(1).
وقال فيما نقله عنه العلامة ابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ) في: (الذيل على طبقات الحنابلة): «قال الذهبي في معجم شيوخه: أحمد بن عبد الحليم ـ وساق نسبه ـ الحراني، الدمشقي، الحنبلي أبو العباس، تقي الدين، شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علماً ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويراً إإإهياً وكرماً ونصحاً للأمة، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.
سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرّج، ونظر في الرجال والطبقات وحصّل ما لم يحصّله غيره، وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيّال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميّال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها.
وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث معزوّاً إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده.
(1/17)



************
وأتقن العربية أصولاً وفروعاً، وتعليلاً واختلافاً، ونظر في العقليات وعرف أقوال المتكلمين، وردّ عليهم، ونبّه على خطئِهم، وحذّر منهم ونصر السنّة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنّة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على صحبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل المِلَلِ والنِّحَل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً، وعلى طاعته، وأحيى به الشام بل والإسلام بعد أن كاد ينثلم، بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأب النفاق وأبدى صفحته.
ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبّه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت: إني ما رأيت بعينيّ مثله، وأنّه ما رأى مثل نفسه».
ثم نقل عن كتاب للذهبي سمّاه (التاريخ الكبير) قال فيه: «وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم، وطبقاتهم ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، إليه المنتهى في عَزْوِه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصْدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث»(1).
ونقل عنه قوله: «.. وغالب حطه على الفضلاء والمتزهدة فبحق، وفي بعضه هو مجتهد، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفّر أحداً إلا بعد قيام الحجّة عليه».
(1/18)



************
وقال: «ولقد نصر السنّة المحضة، والطريقة السلفية، واحتجّ لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يُسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأوّلون والآخرون وهابوا، وجَسَر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياماً لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المرَّ الذي أداه إليه اجتهاده وحدّة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله.
فجرى بينه وبينهم حملات حربية،ووقعات شاميّة ومصرية،وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله،فإنه دائم الابتهال،كثير الاستغاثة والاستعانة به، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية.
وله من الطرف الآخر محبّون من العلماء والصُّلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجّار والكبراء، وسائر العامة تحبّه، لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه.
وأما شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبّه الأبطال، ولقد أقامه الله تعالى في نوبة قازان، والْتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد وطلع ودخل وخرج، واجتمع بالملك ـ يعني قازان ـ مرّتين وبقطلوشاه وبولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجراءته على المغول.
وله حدّة قويّة تعتريه في البحث، حتى كأنه ليث حَرِب، وهو أكبر من أن ينبّه مثلي على نعوته، وفيه قلّة مداراة، وعدم تُؤدة غالباً، والله يغفر له، وله إقدام وشهامة، وقوّة نفس تُوْقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه.
وله نظم قليل وسط، ولم يتزوّج،ولاتَسَرّى، ولا له من المعلوم إلا شيء قليل وأخوه يقوم بمصالحه،ولايطلب منهم غداء ولاعشاء في غالب الوقت.
(1/19)



************
وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدينار والدرهم، لايذكره ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم وهو فقير لامال له، وملبوسه كآحاد الفقهاء: فرجية ودَلق وعمامة تكوّن قيمة ثلاثين درهماً، ومداس ضعيف الثمن، وشَعْره مقصوص.
وهو ربع القامة، بعيد ما بين المنكبين، كأنّ عينيه لسانان ناطقان، ويصلّي بالناس صلاة لا يكون أطول من ركوعها وسجودها، وربما قام لمن يجيء من سفر أو غاب عنه، وإذا جاء فربما يقومون له، الكل عنده سواء، كأنه فارغ من هذه الرسوم، ولم ينحن لأحد قط، وإنما يسلّم ويصافح ويبتسم، وقد يعظّم جليسه مرة ويهينه في المحاورة مرات»(1).
قلت:يَفهم مما سبق أن الذهبي ـ رحمة الله عليه ـ كان يستعظم من مزاج هذا الطودالعلمي والإمام الربّاني أن يظهر كل هذه الحدة والثوران،وصك المخالف المحاور له بحادّ القول وإبَرِه، ويبدو أنه رأى من تلك الحوارات وشهد من تلك المناظرات ما أداه لهذا الرأي، ولعلّه نصحه في ذلك في جملة من نصحه (1).
وقد قال الذهبي في (تاريخ الإسلام) ـ وكان تأليفه في حياة ابن تيميةـ عند ذكره قيام متعصّبة الأشاعرة على أبي العباس بشأن (الحموية): «.. وكان قد لحقهم حسد للشيخ وتألّموا منه بسبب ماهو المعهود من تغليظه وفظاظته وفجاجة عبارته،وتوبيخه الأليم المبكي المنكي المثير للنفوس،ولوسلم من ذلكلكان أنفع للمخالفين لا سيما عبارته في هذه الفُتيا الحموية،وكان غضبه فيها للهولرسوله باجتهاده،فانتفع بها أناس وانفصم بها آخرون ولم يحملوها..»(1).
(1/20)



************
وأوضح مثال على كلام الذهبي هذا،ماوقع لأبي حيان الأندلسي (ت745هـ) مع شيخ الإسلام، فقد كان أبو حيان معجباً به حتى جمعهما مجلس فتحاورا في مسألة من العربية، فلما أورد أبو حيان كلام سيبويه (ت180هـ) كأنه يحتج به، قال له أبو العباس رحمه الله: «يفشر سيبويه، ما كان سيبويه نبي النحو، ولا كان معصوماً، بل أخطأ في (الكتاب) في ثمانين موضعاً ما تفهمها أنت»،ء(1) ولكن يبدو لي أن أبا حيان قد برَّر انتكاس موقفه من شيخ الإسلام بعد هذه الحادثة بسبب يُرضي أَنَفَته، فزعم أنه إنما طرء عليه هذا التغيير لمّا وقف على ما تضمّنه (كتاب العرش) لأبي العباس»(1).
وكان أمر مزاجه الحادِّ مما تناقله أصحابه وعرفوه به، فقد حكى ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) للمؤرخ الصفدي من ذلك حكاية، وخلاصتها أنه تحاور مع بعضهم في مسألة وهو صغير وكان في يده كتاب علم فلما أغضبوه ألقى المجلد من يده غيظاً، فلما أنكروا عليه ذلك ذكَّرهم بقصة موسى عليه السلام حين ألقى الألواح(1). وأقول: كأن أبا العباس ـ سقى الله قبره شآبيب الرحمةـ كان يعتذر عن وجود هذه الخصلة لديه عندما روى لتلميذه الذهبي: أن جدّه المجد بن تيمية (ت652هـ) كانت فيه حدّة(1). والذي يعنينا أنه رحمه الله كان يقهر حدّته هذه بحلم وصفح.
لقد كان الإمام الذهبي كما يظهر من كلامه السابق محبّاً لشيخ الإسلام، وكان هذا الحب معتدلاً كما ينتظرمن إمام منصف عالم بأقدار الرجال،وليس فيما اطّلعت عليه عبارات سيئة فيه اللّهم إلافي (بيان زغل العلم)و«النصيحة».
أما «النصيحة» فقد ازددنا علماً ببراءة الذهبي منها، بعد العثور على المتهم الرئيس بإرسالها، وأما (زغل العلم) فقد مرّت بك قبيح كلماتها، ونازل تعبيراتها في حق شيخ الإسلام، مما يدعو إلى النظر فيها بريبة، وتغليب احتمال كونها منحولة عليه أيضاً، أو أن تلك العبارات قد أقحمت إقحاماً في الكتاب، ولعلّ الله تعالى يوفّق أحد الدارسين إلى كشف جديد بشأنها.
(1/21)



************
لقد دافع الذهبي في كل كتبه، المؤكّد ثبوتها عنه، عن شيخ الإسلام، وعلمنا من نقل ابن رجب الحنبلي، رحمه الله، أنه أرسل إلى أحد مناوئيه، وهو تقي الدين السبكي (ت756هـ) رسالة يعاتبه فيها على كلامه الذي صدر عنه في أبي العباس، وكان كلام السبكي ممّا يُذكّر بقول الشاعر:
وشمائل شهد العدو بفضلهاوالفضل ما شهدت به الأعداء(1)ولو عُرف عن الذهبي أنه كان يصرّح في مجالسه الخاصة،أو العامة،بغير مارأيت من كلامه السابق عنه لتلقّفته الشافعية سريعاً،ولبلغ ذلك عبدالوهاب السبكي فكان ذلك سبباً في تخفيف سلاطة لسانه نحو شيخه الذهبي.
وإني لأعتب على المحقّق الفاضل الدكتور بشار عواد معروف ـ بارك الله في عمره ـ إذ يرى أن السبكي قد أسفَّ إسفافاً كثيراً، وأقذع في شتم الذهبي لما ذكره في (تاريخ الإسلام) في ترجمة أبي الحسن الأشعري (ت324هـ)، ولا يرى في «النصيحة» التي نُسِبَتْ إلى الذهبي، وصدَّقها هو، إلا نصحاً فيه لومٌ ونقدٌ وتقريعٌ لا عبرة بقول من أكبر الذهبي عن كتبها فهلاّ أجرى على الذهبي قسطاسه(1).!!
نقل ابن ناصر الدين الدمشقي، هذه المنظومة عن أبي عبد الله الذهبي يرثي بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
يا موت خذ من أردت أو فدعمحوت رسم العلوم والورعِأخذت شيخ الإسلام وانفصمتعرى التقى واشتفى أولوا البدعِغيّبت بحراً مفسراً جبلاًحبراً تقياً مجانب الشيعِفإن يُحدّث فمُسلِم ثقةوإن يناظر فصاحب «اللمعِ»وإن يخض نحو سيبويه يفهبكل معنى من الفن مخترعِوصار عالي الإسناد حافظهكشعبة أو سعيد الضبعيوالفقه فيه فكان مجتهداًوذا جهاد عارٍ من الجزعِوجوده الحاتمي مشتهروزهده «القادري» في الطمعأسكنه الله في الجنان ولازال علياً في أجمل الخلعمع مالك الإمام وأحمدوالنعمان والشافعي والخلعيمضى ابن تيمية وموعدهمع خصمه يوم نفخة الفزعِ(1)
محمد بن السَّرَّاج الدمشقي
(المتهم بإرسال النصيحة)
(1/22)



************
اسمه: محمد بن علي بن عبد الرحمن بن عمر بن عبد الوهاب بن محمد بن طاهر بن السَّرَّاج القرشي الدمشقي الشافعي،عز الدين،أبو عبدالله.حياته:
لم أقع على مصدر يترجم له سوى ابن رافع السَّلاَّمي (ت774هـ) في (الوفيات)(1) وعنه نقل ابن قاضي شهبة، وابن حجر العسقلاني(1) ولم يذكره ابن كثير في (البداية والنهاية) ولا غيره من أودّاء ابن تيمية أو أضداده فكان ذلك عجباً بحق، ولا أصحاب طبقات الشافعية، أو الصوفية، إلا النبهاني الذي وقف على جزء من كتاب ابن السَّرَّاج، وذكر معاصرته لابن تيمية في مقدمة الكتاب، ولم يزد بشيء.
فكان لزاماً عليّ أن أستخلص ترجمة له من مصنَّفه، وهي ملامح لا بأس بها في إعطاء تصور جيّد عن الرجل. وإن قُدّر العثور على كتبه الأخرى فستزداد معرفتنا بتفاصيل عن حياته(1).
هو دمشقي من أسرة يبدو أنها قديمة السكنى بدمشق، يفهم ذلك من حديثه عن قلندري سكن دمشق ومات بها، هو يوسف القميني (ت657هـ)، قال عنه: «... وهذا الشيخ وقع نظره على أبي وجدّي ـ رحمهم الله تعالى ـ فأفلحا به غاية الفلاح...» ولا يعني هذا أنهما من العامة، بل كان أبوه قاضياً ويحتمل أن جدّه كان كذلك.
تعرفت أسرة ابن السَّرَّاج على الأسرة المهاجرة حديثاً من حرَّان إلى دمشق سنة: 667 هـ، تلك الأسرة التي كان منها صبي لم يجاوز الثامنة من عمره كتب الله تعالى أن يكون من مجدّدي هذه الأمّة، وأحد أعاظم أئمة الدين، بل أحد عباقرة الدنيا. إنه: أحمد بن عبد الحليم الحراني النميري (ت728هـ).
نشأت صداقة الطفولة بين محمد بن السَّرَّاج وأحمد بن تيمية، وكانا متقاربي السن إلا أن ابن تيمية يكبره قليلاً فيكون مولد ابن السَّرَّاج بعد سنة 661 هـ بقليل.
قال ابن السَّرَّاج: «.. كان بيننا وبين هذا الفاضل أنس عظيم، ومجاورة بالأهل والعيال، بالبلد والبساتين من حين الصغر، واللعب المعتاد بين الصغار..»(1).
(1/23)



************
ويفهم على هذا أنَّ أسرة ابن السَّرَّاج كانت تسكن بحي القصّاعين لأن والد أبي العباس نزل بها(1)، وكان هذا الإمام يخرج بأولاده إلى البساتين على سبيل التنزّه، ونستنتج: أن أسرة ثالثة هي: أسرة الإمام؛ تاج الدين الفزاري المعروف (بالفركاح) ربما خرجت معهم، لأن ابنه البرهان الفزاري كان صديقاً لابن تيمية منذ صغره(1).
ويبدو أن صداقة ابن السَّرَّاج لابن تيمية استمرّت إلى مرحلة الشباب، لم يشبها مُعَكِّر، إذ كانت شخصية أبي العباس في طور تكاملها. قال ابن السرّاج: «.. ولما اشتغلنا بالعلم الشريف، كنا أكثر الأوقات مجتمعين، وفي محافل تحصيله ملتئمين..».
وعلى هذا فليس ببعيد أنهما اجتمعا في مجالس السماع الصوفي التي ربما حضر ابن تيمية بعضها ـ على مضض ـ في أوائل عمره(1).
ولما أنهى ابن السَّرَّاج تحصيله، العلمي وتأهّل لنيل وظيفة كأمثاله، جرت أمور لم يتضح لي كنهها، إلاّ أنني أظن أنه أغضب عليه بعض أمراء المماليك، فعيّن قاضياً في الأطراف، عند آخر حدود الدولة المملوكية في البيرة، وبهسنى، وقلعة المسلمين، وكختا، وجميعها الآن في جنوب تركية، وسيأتي سبب ظني هذا لاحقاً.
ويفهم من كلام ابن السرّاج أنّ له خصوماً كان يبادلهم العداء وذلك بيِّن في غير ما موضع من كتابه،من ذلك قوله:«من جُملة المناوئين لنا،والمترجحين علينا في العاجلة»،وهؤلاء الخصوم هم في الأغلب خصوم(أوليائه)من فقراء القلندرية،وقد قال معبّراً عن شعوره نحوهم:«..ولذلك وأمثاله أحببنا كيف أمكن اعتزالهم،وكرهنا منازلتهم،وأبغضنا نزالهم،فليس في صحبتهم صلاح،ولا في قربهم فلاح، ولا في نجواهم نجاح. أبعد الله بيننا وبينهم المدى، وابتلى بجهالتهم العدى، وجعلنا ممن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى».
(1/24)



************
وقال: «فإن قلت لم ذكرت ذلك ومثله وأكثر العالم ينكرونه ويتسلطون على عرضك؟..»، ولا يتردد بين الحين والحين في مدح نفسه، كما قال في موضع من كتابه: «.. فإن قلت: لم باشرت الحكم بالبيرة وقلعة المسلمين وبهسنى المحروسات؟ ومن يصلح لمباشرة الثلاث لا يصلح للعلم بين يديك لفظاً ومعنى بل يستحق أن يشتغل عليك ثلاثين حجة، وإن كانت معرفته بعد ذلك بالنسبة إلى معرفتك لقاسية فجة؟ قلت: إن في ذلك لحكمة كما قدّمناه آنفاً، قد علمها أهل الباطن والتصريف، وأخّروا المستحق عن مناصبه، لما يجهله أهل الباطل والتحريف..»(1).
شيوخه:
1 ـ أحمد بن شيبان الصالحي (ت 685 هـ) سمع منه (الأربعين) للقشيري (ت465هـ)(1)، وقد سمع منه ابن تيمية أيضاً والمزي (ت742هـ)، والبرزالي (ت737هـ)وغيرهم(1).
2 ـ عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري، تاج الدين (ت690هـ) وكان اشتغاله عليه سنة 684هـ، وهو ممّن سمع منه ابن تيمية، والمِزّي، والذهبي الذي أثنى عليه وذكر أنّ معظم فقهاء دمشق وما حولها، وقضاة الأطراف تلامذته(1). وقد مدحه ابن السّرّاج مدحاً عظيماً من ذلك قوله: «.. وأرجو أن ينفعني الله تعالى ببركته، وقد نفع نفعاً بالغاً، وجرى له معي أحوال بعد وفاته، وقد رأيته مراراً في المنام، وأشار إليّ بما لا يذكر، وبيني وبينه اتّحاد من جهة أعرفها، فإنه كان قابلاً للعلم الباطن»(1).
3 ـ أبوه علي بن عبد الرحححن بن عمر بن السّرّاج القرشي الدمشقي (مات قبل سنة715هـ) كان قاضياً.
4 ـ أدرك الإمام محيي الدين النووي (ت676هـ) وهو دون العاشرة، فذكر أنه من شيوخ أبيه وأنه كان يتردد إليه معه فسمع منه أشياء وأقرأه أشياء انتخبها بخطه في كراريس، قال: «ثم حجبني القدر عنه».
5 ـ محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، بدر الدين (ت733هـ).
6ـ عبد الله بن مروان الفارقي، زين الدين (ت703هـ).
7 ـ محمد بن أبي البركات، تقي الدين، المعروف بابن القرشية (ت724هـ).
(1/25)



************
8 ـ محمد بن سالم بن واصل، جمال الدين الحموي (ت697هـ).
9 ـ أحمد بن محسِّن بن مَلِي الأنصاري البعلبكي، نجم الدين (ت699هـ) قال عنه الذهبي: «.. يخلُّ بالصلوات ويتكلّم في الصحابة نسأل الله السلامة» و «... بلغني عنه عظائم»(1).
ولا يستبعد أنه أخذ عن غير هؤلاء ممن أخذ عنهم أقرانه من طلاب العلم بدمشق. أما شيوخه من الصوفية والقلندرية والمولّهين، فكثير كما يفهم من كلامه، من أبرزهم:
1ـ علي بن محمد بن أحمد الرفاعي أخذ عنه سنة 708 هـ إجازة الرفاعية وقال إنه لبس الخرقة من غيره مراراً.
2ـ عمر السنجاري (كان عمره سنة 715 هـ تسعين عاماً).
3ـ براق بابا (ت 707 هـ) الحيدري.
4ـ محمد المرستاني الحيدري وأظن أنه أخذ الحيدرية عنه(1).
مذهبه:
كان شافعياً في الفروع، أشعرياً في الأصول، قلندرياً رفاعياً في تصوّفه.
مؤلفاته:
1ـ «روضة الرواة وقدوة الهداة» اختصر فيه كتاب معرفة علوم الحديث لابن الصلاح (ت643هـ). ألفه سنة 690 هـ بدمشق.
2ـ «الالتماس لمزيل الالتباس» قال ابن رافع: «فيه حديث وتفسير»، ألّفه سنة 697هـ بدمشق.
3ـ «البحث المشاع في حكم السماع» ألّفه سنة 698هـ بدمشق.
4ـ «صفوة النظر في الاختصار لمحك النظر والافتكار».
5ـ «الصافي»، وهذا والذي قبله مختصر «محك النظر» و«المستصفى» للغزالي (ت505هـ). قال: «وكان اختصارنا لهما أواخر سنة 687هـ، وكان مبدأ اشتغالنا الثاني في سن الحداثة سنة 684هـ، فتكون مدة الاشتغال إلى حين التأهل لتصنيف ذلك وغيره من الفنون، نحو ثلاث سنين».
6ـ «مجاز الوصول إلى حقيقة المحصول» اختصر فيه جلَّ (المحصول) كما قال، و(المحصول) مؤلف للفخر الرازي (ت606هـ) وذلك سنة 688هـ بدمشق.
7ـ «كفاية العَجول في علم الأصول» ألّفها بعد الكتب الثلاثة المارة الذكر بقليل. قال: «ولم نجعل أكثر كتبنا اختصاراً، إلا طلباً للبركة والتشرّف بالأئمة الماضين، يعلم ذلك ذو اللب».
(1/26)



************
8ـ «منقذ الفقهاء من جهلة السفهاء» مختصر يتعلق بخلق السسسوات والأرض وعجائبهما.
9ـ «نادر التشبيه في اختصار التنبيه» ألّفه سنة 709هـ ويبدو أنه كتبه في بعض الثغور الشمالية.
10ـ «غائظ الشيطان الرجيم من فيض بسم الله الرحمن الرحيم» مختصر.
11ـ «ثمرة الآراب من شجرة الآداب» فيه قصائد من نظمه.
12ـ «تشويق الأرواح والقلوب إلى ذكر علام الغيوب».
13ـ «تفاح الأرواح ومفتاح الأرباح» وهما اللذان وقفت عليهما.
14ـ وقد ضمن التشويق كتابه «النور الهادي المثبت من كرامات الأولياء ما يرغم الأعادي، الشاهد بصدقه من المؤمنين الرائح والغادي».
15ـ ومثله: «السراج الوهاج في مقتل عثمان بن عفان، والحسين بن علي، وحال الحجاج» ويبدو أنه أفضل كتبه، وما أظن ما فيه من صواب إلاّ مأخوذاً من ابن تيمية. وفي الكتاب نقول نادرة لاعتقادات النصيرية وغلاة الرافضة من نظم ونثر.
16ـ وذكر البغدادي باشا (ت1339هـ) في ذيله على (كشف الظنون) كتاباً له في الأدب اسمه «زواهر الفكر وجواهر الفقر» قال: إنه فرغ منه سنة 721 هـ(1).
ويحتمل أن له كتباً أخرى لم يرها البغدادي كما لم ير الكتب التي ذكرتها لك نقلاً عن (التشويق) الذي ألفه سنة 715 هـ. وقد وهم البغدادي لما ظن أن ابن السَّرَّاج يُعرف بابن المرابط، وأرى أنه لقب أحد النساخ هذا إن لم يكن الناسخ هو: محمد بن عثمان أبو عمرو بن المرابط (ت752هـ)، الذي هو من مشرب ابن السَّرَّاج فيما يبدو، وذلك لأنه حطَّ على الحافظ الإمام الذهبي وترجمه ترجمة أفرط في ذمّه فيها(1).
وفاته:
(1/27)



************
عاش ابن السَّرَّاج متذمّراً، متشكّياً من أناس يعرفهم، وذلك بادٍ في كتابه: (التشويق) و(التفاح)، ولم يرض عن حاله فيما يبدو لي طوال السنوات التي عاشها بعيداً عن دمشق. ويبدو أن شيخوخته انقضت بين البيرة وبهسنى وكختا، إلى أن أصيب بالفالج في حدود سنة743هـ تقريباً، وعانى من مرضه ثلاث سنوات وثمانية أشهر إلى أن مات (بكختا) في الثاني من شهر ربيع الآخرة سنة 747هـ، وقد أخطأ ابن رافع فعدّه من المتوفين في ذي الحجة، من تلك السنة.
وقد ذُكر تاريخ وفاته في آخر مخطوطة (التشويق)، وأظن أن مريداً له أو ابناً هو الذي كتبها، ثم كتب هذه الأبيات، وذكر أن المؤلف نظمها في مرضه بالفالج، وهي تعكس امتداد معاناة ابن السَّرَّاج في منفاه:
يعزّ على قلبي أراني مقلّباًبأيدي النسا والروح تُطوى وتُنشرُمن الفالج المقضي علي بلاؤهولله حمد دائم ليس يحصرعلى أنني أرجو الرضا بقضائهولست بأقوى يا ليالي فأصبروأسأله عفواً ولطفاً ورحمةلعلّي أن أحظى بذاك وأظفروإن كان تكثيراً لأجرٍ فحبّذاوإن كان عن ذنب عظيم يكفّروإن كانت الأخرى فللّه درّهاتريح فؤاداً ميتاً ليس يحصرهموم وأحزان وصحبة معشرٍ(...) من خير وفي الشر تنذريعانون أوصافاً من الشرّ والدَّهاخيارهم في الشرّ من هو أمكرتراهم إذا ما الشرّ أطلع رأسهسعاة إليه كالطيور تنفرإإإه السماء امنن بتفريق شملهمفلطفك بالمسلمين أحرى وأجدرفبثّ المساوي العبد أولى بتركهولكن بعض الشرّ يحكى وينذرفيا ربّ خلّصني فإنك عالمبنيّاتِ عبدٍ كالهباء وأحقرعلى أنني قاضٍ بذنبي مطلقاًوما فيّ من وصف رضا فهو مهدروإن عذابي ليس شيئاً لديكموما أنا جبار يقال يصغّر(1)
بعض كلمات ابن السَّرَّاج في شيخ الإسلام ابن تيمية
كنت قد ذكرت لك أن ابن السَّرَّاج أشعري رفاعي، والرفاعية ضرب من القلندرية الذين هم أسوأ أصناف الصوفية، فعلى هذا ليس بغريب أن يكون موقف ابن السَّرَّاج عدائياً، بل شديد العداوة من شيخ الإسلام.
(1/28)



************
لكن المعرفة الشخصية بينهما(1)، وصداقة الطفولة، والفتوّة الأولى، ومجالس طلب العلم، إلى آخر ما هنالك، جعلت هذه العداوة من طراز آخر ـ كما يبدو ـ فلا مقاطعة كاملة بينهما، بل يستنتج؛ أنهما كانا يتناصحان هذا وأعني شيخ الإسلام يدعوه إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وذاك يدعوه إلى ما ظنه حقاً وهو عنه بمعزل.
وإخال أنك ستوافقني القول، في احتمال كون ابن السَّرَّاج، هو الشخص المعني في كلام ابن شيخ الحزامين (ت711هـ)، الذي ذكر أن أحدهم ألّف في ابن تيمية كرّاسة يذمّه فيها، مع ذكر فضائل له، تعمية لسوء نيّته، وجعل يدور بها على بعض محبي ابن تيمية، ويقرؤها في خلوة عليهم(1)، وسيقوى عندك هذا الاحتمال إن استرسلت في القراءة وتأمّلت كلام ابن السَّرَّاج.
كانت عقلية ابن السَّرَّاج خرافية كما سيتّضح لك من النقول التي سأنقل لك بعضها، وانظر إلى حديثه عن رمز قلندري هو يوسف القميني، فبعد أن ذكر أن هذا الشيخ وقع نظره على أبيه وجدّه فأفلحا به غاية الفلاح،قال: «وخصنا الله تعالى من تلك البركة الموروثة، بما عمّنا بأنواع الرباح، وأوصاف الخير والنجاح ولذلك صار أكثر نصيبنا لما وفقنا الله تعالى لسلوك هذا الطريق الشريف من حال الصغر من المولهين، ولنا معهم أحوال وقضى لنا ببركتهم آمال.».
وقد قال شيخ الإسلام كلاماً ما أظنّه قصد به إلاّ ابن السَّرَّاج وأباه وجَدّه أو أمثالهم: «... فهؤلاء يعمدون إلى الصبيان ويربّونهم على التوَلّه تربية، ويعوّدونهم الخروج عن العقل والدين عادة، كما يعوّد الأنبياء والصالحون أتباعهم ملازمة العقل والدين»(1).
(1/29)



************
وكان يقبل كل ما ورد من خزعبلات أوليائه وإن خالفت العقل والدين، فقد صدَّق أن هناك شجرة إن أكل من ورقها الشيخ الهَرِم عاد شاباً يافعاً، وأن شيخاً صوفياً تحوّل جسده إلى ذهبٍ وهَّاج وأنه أعطى شخصاً قطعة من جسده الذهبي، وأن شيخه تاج الدين الرفاعي نزل مرة إلى نهر دجلة ليغتسل وغاص وبقي في الماء حتى خاف عليه من كان معه، فلما صاحا مستغيثين طلع إليهم وقال: «يا أولادي والله وجدت تحت الماء سبعاً وسبعين طائفة من الجن وشرعت أتوّبهم وأقصّ شعورهم، وأنتم أزعجتموني» وكان في يده كثير من شعور الجن(1) !.
وكان يصدق بوجود الغول، لأن كرامة لأحد أوليائه ورد فيها ذلك(1)، ويسوّغ للقائلين بـ«الشاهد» من الصوفية انحطاطهم الخلقي في تتبع الجمال البشري، والتعبد بذلك، وذلك في قصة يرويها عن شيخه عمر السنجاري وكيف تعرّف على المولّه القلندري مبارك الهندي (ت689هـ)، الذي كان تاجراً في بدء أمره، ثم تولّه لأنه كان يلازم الوقوف والنظر إلى وجه عمر السنجاري، الذي أخبر عن نفسه: أنه كان فائق الحسن والجمال.
والمهم في الأمر؛ أن ابن السَّرَّاج شعر أن هذا الذي حكاه سيُعترض عليه من قِبل أهل الشريعة، فقال: «فإن قيل ما سبب نظره إلى صورة الشيخ عمر السنجاري وخروجه من الدنيا بعد ذلك ؟ قلنا: فيه أسرار، منها: أن الصانع يعرف بمصنوعاته ويستدل عليه بها، ومنها أن الصور مظاهر لمعانٍ، ومنها أن بعض النفوس تجذب إلى الجانب الإإإهي بنظر المحاسن، وبعضها يجذب بسماع المطربات، وبعضها بالمواعد الحسنة، وبعضها يجذب بالتخويف، والتهديد، والاطلاع على أنواع المفزعات، وبعضها يجذب بالابتلاء والامتحان، إلى غير ذلك ولولا خروج الكتاب إلى حد الإطالة لشرحنا ذلك وغيره، ثم انظر خاصية النظر كيف حصل تأثيره في الناظر والمنظور، وكيف كان الاستعداد من الجهتين، ثم إن النظر في ذلك إلى ما يعرفه الخواص المؤيدون بقوة الله تعالى، المبرؤون من ظن السفلة وطعن الجهلة...»(1).
(1/30)



************
وقال وهو يعلل غرام قائل بالشاهد كان مولعاً بالمردان: «إن الصبيان أقرب إلى رؤية النور الإلهي، والإنعمال الكلي، للمعنى الرباني الذي أودعه الله تعالى في أوليائه، وخزنه في قلوب أصفيائه. يعلم ذلك من هداه الله، ويعتقده من أيّده الله»(1).
وكان يبرر أيضاً تجسس بعض الصوفية وأكثر القلندرية للمغول وعمالتهم لهم، قال: «.. فإن قيل:نريد أن نعرف عذر من يخفر غير الإسلام قلنا: من جملة الأعذار بعد: {وما فعلته عن أمري} أنهم مع المشيئة الربانية، وخفراء الإسلام مع المشيئة والشريعة فهم أكمل، وفيه نظر تركناه لعارفه»(1).
وقد نقل قصة في ذلك،عن قلندري يقال له معتوق الباعشقي سكن بغداد وطعم مما أنفقه عليه المغول، قال: «روينا عن شخص من أصحابنا الصُّلحاء، ولم يكن بدمشق مفتٍ سواه يقال له الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن شبل المالكي، الجزري ثم البغدادي (وهو من قلندرية الحريرية مات سنة713هـ)، قال: توجهنا إلى زيارة الشيخ معتوق ـ وكلاهما ببغداد ـ مع فقيهين آخرين، وقالوا في طريقهم: كيف يأكل الشيخ معتوق مال صاحب الديوان (وهو موظف مغولي)، مع ما هو معلوم فيه من الشبهة والحرام ؟
فلما وصلوا، قال: يا أولادي تقولون عني كذا وكذا، وأعاد الجميع ثم قال: ما لي حيلة، والله لو أطعموني خراج قحبة لأكلته!! فاستحيوا من هيبته واعتذروا كثيراً»(1).
وحكى خبر أحد الرفاعية يقال له ابن قليج الرفاعي (كان حياً سنة699هـ) كان من أمره أنه دخل النار أمام المغول فلما لم تضره أكرموه غاية الإكرام. وكان قد استغاث قائلاً: يا سرَّ سيدي تاج الدين (الرفاعي) !! وأنه أعطي مرسوماً من المغول، مضمونه أنه يكرم، وإن مات في مكان يموت أهل ذلك المكان، فكان كلما حلّ بموضع أكرم ثم سئل الرحيل(1).
(1/31)



************
وقد ذكرت لك آنفاً: أنه جرت لابن السَّرَّاج أمور لم يفصح عنها وذلك قبيل سنة 697هـ أوجبت انتقاله بما يشبه النفي إلى الأطراف بوظيفة قاضٍ على تلك الثغور، لكن المؤكد أن شخصاً أو أشخاصاً قد تسبّبوا في فراقه دمشق التي أحبها، وكتب مناقبها ما سأعرض له لاحقاً. وهذا أمر وارد في كل